قداسة البابا المعظم الأنبا تواضروس الثانى

قداسة البابا المعظم الأنبا تواضروس الثانى

وصية قداسة البابا شنودة الثالث لرعيته

وصية قداسة البابا شنودة الثالث لرعيته
وصية قداسة البابا شنودة الثالث مثلث الرحمات

الخميس، 27 يناير 2011

الصلاة في الحياة اليومية

 
 
إدامة الأيمان
في كتابي لماذا نغفر؟ تحدثت عن القصة العجيبة لـ جوردون وجوان ويلسونGordon & Joan Wilson وأبنتهما ماري Marie التي قُتلتْ بقنبلة إرهابية في أينسكيلين في أيرلندا الشمالية، والتي تركت والديها المصدومين نفسيّاً يصارعون مع معنى الغفران. وكلاهما صارا بعدئذ صوتين جريئين للسلام. توفي جوردون حديثاً، إلا أنَّ أرملته داومت على عمله، فكتبت قائلة:
في يوم الانفجار انتظرنا وترقبنا وصلينا. ففي بداية الأمر شاطَ غضبي. وقلتُ لنفسي؛ كيف يمكن للمرء أن يفعل فعلة كهذه؟ ولكن بعدئذ فكرت في الصلاة الربانية - حين نسأل الله: "أغفر لنا خطايانا كما نحن نغفر لمن أخطأ إلينا،" - وفي كلام يسوع: " يَا أَبَتَاهُ اغْفِرْ لَهُمْ لأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ." فظلّت هذه الكلمات تقرع في بالي وصرتُ أفكر بالأخص بأولئك الذين وضعوا القنبلة؛ وأحسست بأنهم فعلاً لم يعرفوا ماذا كانوا يفعلون. ويمكن للناس أن يقولوا: "لا، إنهم يعرفون جيداً ماذا يفعلون ولكنهم لا يأبهون. وسيأتي يوماً يتحتم عليهم مواجهة الحكم، الذي له أن ينال منهم". أما أنا فصليت لهم ليدركوا بشاعة ما فعلوه وليطلبوا المغفرة. لقد أستغرق موقفي هذا وقتاً طويلاً للتوصل إليه والعيش بحسبه. ولازالت هذه الأحداث تدور في مخيلتي؛ القنبلة، موت أبنتي، المغفرة، الصلاة. إنني أكره ما فعلوه ولكنني لا أكرههم.
       قبل حادثة القنبلة، كنت غالباً ثرثارة بشأن يوم الجمعة العظيمة. فأتذكر كنت أقول: "بالحقيقة، أنا لا أفهم عيد القيامة جيداً." ولكن بعد موت ماري، صليت. وأتذكر عندما كنت يوماً مليئة بالحزن وتساءلت: "ألا يوجد من يساعدني؟" وفجأة بدا لي هناك صوت يقول لي: "أنا هو رجل الأحزان الذي يعرف معنى الأسى." وهناك جاءني بأن المسيح قد مرّ بجميع أنواع الأحزان على الصليب. إنه الوحيد القادر على إعانتي والأخذ بيدي. كما أدركت أيضاً بأن ما عانيته كان لاشيء، لاشيء على الإطلاق، مقارنة مع الذي كابده يسوع المسيح.
       يستطيع المرء أن يصلي في أماكن مختلفة وبأساليب مختلفة. وأحياناً لا تأتي الصلاة بسهولة؛ وأحياناً تجري جريان. قد تكون الصلاة صمتاً، أو ترتيلاً، أو قراءةً، أو حتى مشياً، لأننا نقدر التحدث مع الله أينما كنّا.
       الصلاة بالنسبة لي هي جدول يومي والتزام يومي. فقد وصلت إلى مرحلة بحيث صرت أشعر بوجوب الصلاة لكل شيء. ومن ناحية أخرى فإنّ الصلاة ما هي بواجب، بل سعادة فالتحدث مع الله وإدراكنا بأنه يستمع ويستجيب لنا أنما هي بركة. أصلي من أجل جيراني وأعزائي، ومن أجل الناس الذين يأتون إلى داري، ومن أجل المرضى، وطبعاً من أجل الوضع السياسي. فلديك العالم كله لتصلي من أجله! لديّ اليوم بأكمله لأركع فيه. غير أنني بمقدوري التحدث مع الله خلال تجوالي في مهماتي اليومية. وهذا هو الشيء الأعظم.
في الفصل الخامس من الرسالة الأولى إلى تسالونيكي في الإنجيل، يعطينا الرسول بولس ثلاثة وصايا رائعة: أفرحوا كل حين، وصلوا بلا انقطاع، واشكروا في كل شيء. فهذه الوصايا الثلاثة هي بالحقيقة وصية واحدة لأن من له علاقة حية مع الله، فأن هذه الوصايا، الفرح والصلاة والشكر، تصبح جزءا من الحياة كالأكل والشرب. قال اللاهوتي سورين كيركاجارد Søren Kierkegaard مرة: "لماذا أتنفس؟ لكي لا أموت. فهكذا الحال مع الصلاة." بالنسبة لي، فأن جواب كيركاجارد هو أفضل رد على السؤال العتيق، "كيف أصلي بدون انقطاع؟" فحسبما يرى كيركاجارد، فإن أسلوب حياة المرء المنسجم مع الأبدية هي صلاته الغير منقطعة.
وتقول جارتي كارولين:
أعتبر الصلاة بمثابة حديث متدفق مع الله الذي هو آب عزيز عليّ. والصلاة أمر طبيعي جداً، ومع ذلك فهي عمل اختياري وطوعي. وبالطوعية أقصد بأنه في بعض المرات عندما أفتح عيني في الصباح، فأول ما أستهلّ به يومي هو تقديم الشكر لله على يوم جديد، وأطلب منه الستر على أحبائي. وفي أحيان أخرى، لا أشعر برغبة في التكلم معه خصوصاً عندما أكون فظّة الطبع على سبيل المثال، ولكنني أصلي على أية حال.
       وطبعاً الصلاة في أوقات المشاكل دائماً أسهل. فأذكر مرة عندما كنت مراهقة متخبطة أبحث عن اتجاه لحياتي - جلست عند الشاطئ وتكلمت مع الله وشعرت بأنه كان قريب مني - وبأنه سيساعدني ويحميني. وحصلت على تصميم جديد لإعطاء قيمة جديدة لحياتي.
       أما الآن فعمري خمسين، وعندما ألقي نظرة إلى حياتي السابقة أشعر بالخجل بنوع ما. وأفكر بأولئك القديسين ممن يصلون ويتأملون. فأنا لست مثلهم بالتأكيد. وأسأل نفسي: هل قد كرستُ نفسي حقاً للصلاة لله؟ طبعاً لا، ولكني أطلب من الله أن يرحمني.
       لا أستطيع تخيّل حياة من دون نوع من التحدث مع الله. فأحياناً عندما أتصرف بحماقة، أتكلم مع الله لكي أرى الأمر من خلال وجهة نظره هو – لأرى مدى حماقتي. وأحاول الضحك على نفسي. أو أثناء أوقات الحاجة، مثلاً عندما كان لدى زوجي أزمة قلبية، أو عندما حصلتْ لديّ حالة إسقاط جنيني، فقد صلينا كثيرا. لم نستعمل كلمات رنانة بل مجرد سلمنا حياتنا كلها لله وتضرعنا إليه لكي تحدث مشيئته. لم تكن أمور كثيرة في حياتنا سهلة، أو تسير بالاتجاه الذي نريده، ولكن إن وُجِدتْ صلاة رصينة واحدة في حياتنا فهي تلك التي كنا نطلب فيها لمشيئة الله أن تحدث.
في خضم اندفاع الحياة يوجد دائماً شيء ما ينبغي القيام به، شيء يلهينا عن ما هو فعلاً مهم. والحلّ الجزئي لهذه المشكلة هو القيام بإعطاء الأولويات للأمور الكثيرة التي تشغل بالنا، لأن أول ما نهمله هو الصلاة دائماً - ربما بسبب شعورنا بأنها تتطلب مكاناً أو وقتاً أو خلوة، ولكن لِمَ كل هذا؟ إن كانت علاقاتنا مع الله حيّة، فسنشعر بأن القنوات معه دائماً مفتوحة، إن جاز التّعبير، وسنرفع بأفكارنا إليه دائماً بغض النظر عن الظروف المحيطة.
ومع ذلك فإن مطران مدينة بيتزبرج Pittsburg "دونالد فويرل Donald Wuerl" يشير بأن تخصيص فترات معينة للصلاة هي ممارسة جيدة:
يلزمك تخصيص ذلك الوقت لتسمع الله يكلمك، وتحتاج إلى وقت لتجاوبه. فلا توجد علاقة تبنى على الصمت، بمعنى انعدام الاتصال. وفي خضم ضجيج الحياة لابد لنا أن نخلق وقتاً للسكوت لغرض تجميع ولملمة الذات، ذلك الوقت الذي تتمركز عليه حياتنا ليتسنى لنا سماع صوت الله. بعدئذ سنكتشف مواهب روح الله القدوس، ألا وهي: السلام والفرح والمحبة والإيمان.
والشخص الذي كنتُ أراسله الذي كان ينتظر عقوبة الإعدام في ولاية بنسلفانيا واسمه ريجي يعلم حقيقة هذا الأمر جيداً، ويكتب قائلاً:
في سجن الولاية SCI-Green حيث القضبان الحديدية المتدلية والمعقل الحجري الذي أعيش فيه، يخيّم الظلام باستمرار فوق كل شي. ويجري تدنيس الحياة في كل بقعة فيه، حتى في مجرى الكلام الاعتيادي الذي يملأ الهواء مثل – الثرثرة وانتهاك الحرمات... غضب وعويل كئيب... اغتياب خبيث... ونكات قذرة - ولكن بسبب عهدي مع الله، الإله الحقيقي الواحد، لأداء فريضة الصلاة ولخمس مرات كل يوم، فلا تقوى الظلمة على قهري مهما كان حجمها.
       إنَّ فريضة الصلاة بالنسبة لي تعتبر عمل من أنواع الوضوء الذي يزيل وصمات الشيطان النجسة بواسطة التنقية الذاتية. ففي بيئة الفساد والنجاسة والموت تطهّر الصلاة هيكل روحي. ففي الصلاة أنحني مع ذهني وقلبي لإرادة الله بالتقوى (أي الطهارة والتديّن ومخافة الله) وأوعد بعدم نسيانه كما هو لا ينساني.
       في زماننا حيث الاشمئزاز والسطحية، يؤمن قليلون جداً بأن الله يستمع إلى صلواتنا عندما نلتفت إليه. وحتى عندما يصلي الناس وطلباتهم ممنوحة، فيمكن أن يهزوا أكتافهم وكأنها مجرد مصادفة سعيدة ليس لها علاقة مع الله.
       عندما شاهدت برنامج Dateline NBC قبل فترة قصيرة، حضرني النص القرآني التالي من سورة الأنعام (63:6):

       "قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُماتِ الْبَرِّ والْبَحْر... تَدعُونَهُ تَضَرُعاً وخُفْيَةٌ..."

كان موضوع اليوم في ذلك البرنامج التلفزيوني قصة غرق بارجة كسيحة ومحملة أكثر من طاقتها والتي انقلبت وانكسرت في البحر الهائج، وغرق المئات من الركاب. وأحاطت الكواسج حوض السفينة وهجمت على الركاب ألسيئي الحظ ملتهمة أجسادهم. فأضحى البحر أحمر من الدماء.
       كانت هناك راكبة، فتاة شابة، لم يصبها الفزع، رغم كل ذلك. فأخذت تستخدم إحدى التقنيات التي تعلمتها في البحرية سابقاً، حيث بدأت بنفخ سروالها وعقدت جانبيه لتعوم عليه. فبعد أن طافت على سطح المياه ولمدة بضعة أيام تمَّ العثور عليها وإنقاذها، وكانت: محتارة، منهكة، جائعة ونصف ميتة لكنها مازالت على قيد ال        فهل هناك من يجرؤ على أن يشكّك من أن هذه الشابة لم تُصَلِّ مطلقاً؟ أو بأن دعائَها لم يُستجاب له قط؟ فأنا أتحدى بأنه حتى الغير مؤمن ذا القلب الحجري لا يجرؤ على طرح السؤال التالي عليها: من هو الله؟
مما لاشك فيه، لا يوجد اثنان متماثلين، ولا حتى تفكيرهما متماثلين. ولا حتى تجربتي إثنين مع الله متماثلتين. وهكذا تختلف حياة الصلاة من واحد لآخر، انعكاسا من تنوع صفات الفرد، أو المعتقد، أو الحالة النفسية وحياته اليومية. إنَّ الصيغ لا تهم أبداً. فقد وجدنا أنا وزوجتي شخصياً، بأن الصلاة المشتركة صباح كل يوم أمراً حاسماً لنجتاز يومنا بسلام، والتي أصبحت جزءاً طبيعياً من إيقاع اليوم في حياتنا الزوجية.
       في كتابه "رسائل وأوراق من السجن "Letters and Papers from Prison تمكن ديتريش بونهوفر Dietrich Bonhoeffer حتى من القول بأن الصلاة (أو غيابها) يمكنها تحديد حصيلة يومنا. فعندما نضيّع وقتنا، وعندما نستسلم للإغراءات في الفكر أو العمل، وعندما نبدو مرهقين أو غير مستلهمين أو كسالى، يكمن جذره على الأغلب في إهمالنا للصلاة. ورجل الدين الإنجليزي من القرن السابع عشر توماس فولير الذي رأى الشيء ذاته حسبما يبدو، كتب معبراً عن معني الصلاة بالنسبة له، فقال: "إنَّ الصلاة هي مفتاح النهار وقفل الليل." ويقول صديقي الصحفي مايك أكويلينا Mike Aquilina، بأن الصلاة تعتبر جزء مهم من يومه ولا يستغني عنها، كما يردف قائلاً:
أتعهّد بعملي، وبهجتي، وآلامي، وراحتي لله، وأحاول إبقاء وعي وجوده في بالي طوال اليوم. وقد وجدت ذلك نافعاً خصوصاً في موضوع الالتزام الشخصي لتخصيص وقتاً منتظماً للصلاة. لذلك أنهض مبكراً كل يوم، لأن مهمتي الأولى في الصباح هي تسليم يومي لله.
       فبينما تكون أسرتي ما تزال نائمة، أصرف نصف ساعة في المحادثة الهادئة مع الله، وأتحدث معه حول أحداث اليوم القادمة. بعدئذ أتأمّل عادة فصلاً من العهد الجديد (الإنجيل) وربّما بضعة صفحات من كتاب روحي آخر. إنّ الجزء الأكثر أهمية من صلاتي اليومية هو حضوري القداس في الكنيسة.
       أما في وقت ما بعد الظهر، فغالباً ما أصرف نصف ساعة أخرى في صلاة هادئة. وفي المساء، نصلّي المسبحة سوية، وأختتم مسائي بتفحص أحداث اليوم في حضور الله، وبتقديم الشكر، بالإضافة إلى الندامة على خطاياي.
       كان ذلك خلاصة نظامي اليومي، لكن النظام هو ليس صلاة، فأنا أكثر من مجرد كومة من الأعضاء والعظام. فالصلاة شيء حيّ. إن الصلاة هي رؤية الله في كلّ شخص. وهي تجعلني على وعيّ حينما أكون على خطأ، وهي التعبير عن الندامة عندما يكتوي أصدقائي بلساني اللاسع وقت الغضب.
       إنَّ الصلاة هي جميع أنواع المحادثات الشفهية واللا شفهية، في علاقة حبّي مع الرب. فيمكنني مقارنة هذه العلاقة بحبّي العظيم الآخر، إلا وهو زوجتي: فمحادثاتنا تحيط وعود زواجنا الرسمية، وأيضاً حديثنا العابر معاً، وعند لحظاتنا مع الأولاد، ولحظات الانفراد، وطرفة عين في غرفة مزدحمة، وابتسامة عبر المائدة، والوداد الجنسي، وبعض العبارات أو الحركات الإيمائية العاطفية التي لا نتعب من تكرارها.
       ويكون حديثنا أحياناً مجرد إحساسنا بأننا معاً، سواءً كنا منهمكين بالعمل أو جالسين أحدنا بجانب الآخر نقرأ كتاباً مختلفاً. ويوجد في علاقتي مع الله أوجه مشابهة من التعبير – مثلاً في صيغ الكلام، أو المحادثات الهادئة، والإيماء، ولكن أيضاً عند اشتراكي في سر الشكر في القداس في الكنيسة.
وأنا شخصياً قد تأثرت بأقوال كلمنت الاسكندري مثلما تأثّر به الكثيرون، حيث قال بأن الصلاة هي حديث مع الله. وكلما أفكر بهذا التعريف أدرك كم هو جيداً؛ أي بمعنى أن الصلاة في الحقيقة تتضمّن كلاً من الكلام والاستماع، ومحادثات مستمرة وفترات صمت، ولحظات من الإنجازات السعيدة وساعات من الشك والأسى. والتعريف جيّد أيضاً لأنه يساعد على تنبيهنا بأنّ اتصالنا ليس من الضروري أن يكون رسمياً أو "مقيّداً"؛ على العكس، فإنه يجري كمحادثة طبيعية، عادية وبكامل الحرية. وسنتعطش إليها تماماً مثلما تتعطش وتجوع أجسامنا.
يستهلّ مزمور 42 من سفر المزامير في الكتاب المقدس بالعبارة التالية:
"كَمَا يَشْتَاقُ الإِيَّلُ إِلَى جَدَاوِلِ الْمِيَاهِ هَكَذَا تَشْتَاقُ نَفْسِي إِلَيْكَ يَا اللهُ."
فهذه صورة رائعة عن كيفية التفات النفوس العطشى لله - ولا تكتفي بالشرب لمرة واحدة، بل ترجع إليه باستمرار، دائماً وأبداً، لتحصل على قوة من جديد.
       أما عن صديقي القس جون وزوجته جوين، فالصلاة عندهما ليست أمر يحتاجان إلى مناقشته أو حتى إلى تنبيه أحدهما للآخر به – وبالتأكيد فهو ليس أمر يحتاج إلى تكيّفَه في جدول النهار المزدحم. فالصلاة عندهما، وبكل بساطة، هي كطبيعتهما الثانية، فيقولان:
منذ أن تزوجنا، أعتدنا على قراءة شيئاً ذات طبيعة روحانية بالإضافة إلى صلاتنا المشتركة صباح ومساء كل يوم. وكنا نتناوب في ترديد الصلوات. فتوجّه روحي كهذا صار عوناً شخصياً كبيراً لنا، لأنه ساعدنا على التركيز على احتياجات الآخرين من حولنا وفي جميع أنحاء العالم.
       كانت الصلاة الجماعية لمجتمع الكنيسة (من ضمنها الصلاة الشخصية الصامتة لكل عضو فيها) تعني الكثير لنا، وقد رأينا أشياءً رائعة تحدث كنتيجة لها، ولو على نحو هادئ غالباً. هذا وتعتبر صلوات الشفاعة مهمة جداً، أي حينما يتشفع بعضهم لله من أجل بعض، غير أنّني أؤمن بضرورة التحلّي بموقف الامتنان لله باستمرار على جميع عطاياه لنا وعلى ستره، وإرشاده، فهذا أهمّ إلى حدّ بعيد.
       عندما أفكر بحياتي، فلا يسعني إلّا الامتنان بعمق لله لتوجيهه إياي على مرّ السنين، بالرغم من زيغي في العديد من المرات. فإحساسي بإرشاد الله لي وبأنه يأخذ بيدي خطوة فخطوة أعطاني سلام القلب دائما. ولم يكن هذا شيئاً كسبته بفضلي، وإنما كانت نعمة بحتة.
       بالطبع، كانت هناك أيضا فترات في حياتي عندما اعتقدت بأنّني كنت أعرف إلى أين كان الله يقودني، لكن بعد ذلك وجدت بأني كنت على المسار الخاطئ.
       والآن أنا كبير في السن وأشعر بأنّني كسبت مجرد قليلا من الحكمة، وربما لاشيء. فما زال ضعفي موجودا. وما زلت جون! فالأمور التي وجدتها مهمة عندما كنت شاباً ظلّت مهمة لي لحد اليوم، مثل: العدالة الاقتصادية والاجتماعية، والسلام، والإخوّة بين الناس. ورغم ذلك، صارت بعض الأمور ذات أهمية متزايدة: كالصلاة، والإخلاص لدعوة الله لي، وفوق كل شي، الامتنان لله. فما أسهل زيغي عن الطريق لأصبح أنانياً ومهتماً بالأشياء السطحية!
       تعتبر الصلاة عندي ليس سوى مسألة ركوع مستمر. والعناصر الرئيسية هي مجرد شكر الله، وتمجيده، وانتظار وترقب إرشاده، والثقة به. والثقة تعطيني السلام، لأنني أعرف بأنني لو وضعت كلّ شي لديه، فإن إرادته، ومهما كانت، ستصبح واقع حقيقي في حياتي.
لا يسعنا أنّ نتخيّل جبروت قدرة الصلاة العجيبة. فقد كتب تَنيسون Tennyson مرة، قال: "لقد أنجزت الصلوات أموراً كثيرة لا يستطيع العالم حتى أن يحلم بها." وهناك حادثة مرويّة عن القس يوهان كريستوف بلومهارت Johann Christoph Blumhardt، الذي تهدّدت حياته عدّة مرات - كما كان متوقّعا، إذ عارض شهادته بعض الناس من أبرشيته. ففي إحدى الليالي تسلل رجل إلى غرفة بلومهارت العلوية واختبأ، ومعه سكين في يده، بهدف اغتياله في نومه. وخلال الانتظار، سمع الرجل بلومهارت يصلّي ووجد إيمانه مسكِّناً للروح بحيث جعله يترك المنزل هارباً. وفي الصباح القادم وجد بلومهارت رسالة من الرجل على عتبة الباب، معترفاً فيها بنواياه الشريرة التي كانت عنده، وأخبره بأنّ تلك الصلاة غيّرت حياته.

       إن الصلاة هي مساهمة كلّ شخص إلى كنيسته وإلى العالم. فإذا كنّا نهتمّ بالحياة الروحية، سنعيش في صلاة حيوية. وهذه عليها أن تكون تعزية للمرضى، والمسنين، وآخرين ممن لا يقدرون فعل شيئاً غير الصلاة. وغالباً ما قد فكرت بأن ما يفعله هؤلاء لله وللعالم أكثر أهمية مما نفعله كل يوم نحن الأصحاء والنشيطين. إن جيراني "دك وزوجته لويس آنDick and Lois Ann " - ولأكثر من أربعين سنة - يقولان بأنهما أخذا يدركان ذات الشيء مع تقدمهما في السن:
إن الصلاة كانت دائماً جزءاً من حياتنا الزوجية، لكن في السنوات الأخيرة، وحينما بدأنا ننظر أكثر وأكثر إلى نهاية حياتنا، فقد نالت أهمية أكبر. لقد تأثرنا كثيراً بكتابات توماس ميرتون Thomas Merton، وبكتابات الذين جاءوا من خلاله أي جماعة القدّيس يوحنا الصليبي. وقد صارت صلواتنا أكثر تأمليّة، وجزءاً طبيعياً من حياتنا وعملنا اليومي أكثر وأكثر، وشهدنا تجارب أكثر عمقاً للهدوء الداخلي أمام الله. وتعلمنا استخدام السكوت لتسبيح الله.
لقد قيل بأن المرء يقف في نهاية حياته ما بين الزمن والأبدية. ويصدق هذا الكلام إلى حدّ ما. ولكننا وجدنا أيضاً وعن طريق الصلاة بأن الحدود الفاصلة بين الحياة والموت، والزمن والأبدية، قد أزيلت، ويسعنا العيش مع الله في لقاء مباشر.

أطلبوا ملكوت الله

(لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ
وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ.)
(متى 6: 33 )




إنَّ تاريخ حياة يسوع هو تاريخ ملكوت اللـه في الماضي والحاضر. فقد ذُهِلَ البعض بهذه الحقيقة واستحوذت على حياتهم بالكامل. إلا أن كثيرين غيرهم غابت عنهم رؤية ملكوت اللـه هذه الأيام. إذ انبهرت عيون الناس بالكثير من الأشياء، وكانت للحياة الخارجية مطالبها. فصار الإنسان يرفع نفسه عالياً وبكل قوة في تقدمه وبحثه بالأسلوب البشري الآن أكثر من أي وقت مضى. ويبدو كما لو أن العالم بأسره أراد أن يقدم لنا طاقته على طبق ذهبي قائلاً: “ استخدمني، لتصبح عظيماً وقوياً، وغنياً، ومبدعاً، ونشيطاً - وسيطر على كل شيء”. فإن القوى التي ما كاد الزمان يحلم بها سابقاً قد أصبحت متاحة لنا الآن وأبوابها مُشرّعة. ويجد كل شخص نفسه في مكانة تسمح له أن يستغل تلك الاختراعات الجديدة وتلك القوى الجديدة لأغراضه الخاصة. ويبدو أن مجتمعنا بأكمله يعتمد ويتوقف على هذا. وإذا ما غَضَضْنَا الطرف عن تلك الأمور، فسنتباطأ ونفتُر وأخيراً سيقضي نحبنا في ظلِّ حياتنا الأرضية البحتة. فهناك روح تسعى لتحقيق إنجازات فكرية والتي تُنحي جانباً الاهتمام بملكوت اللـه.
لكن غابت عن كثيرين رؤية ملكوت اللٰـه
لقد حدث سوء فهم فظيع فيما يتعلق بحقيقة ملكوت اللـه وماهيته. أما عن المفهوم الشائع للكنيسة فقد قيل الكثير عنه ولم يكن هناك أيّ تقصير بشأنه، كما قد ذُكِر الكثير عن التعاليم الطقسية التي أبقتها الكنيسة، وعن الطوائف المتعددة التي صارت أمراً فاضلاً ومقدساً داخل جسد الديانة المسيحية. إذ هناك تشديدٌ جسيمٌ تمَّ ترسيخه على المظهر والإطار الخارجي والذي نعبّر به من خلاله عن أنفسنا كمسيحيين. لذلك نفهم سبب عدم حصول الكثيرين اليوم على الصفات الحية التي أراد أبينا السماوي أن يعطيها لنا في يسوع المسيح. فلم يروا ولم يتذوقوا الحياة التي تأتي من اللـه، لهذا فهم في مأزق. صحيح أنهم يقرّون بحاجتهم إلى اللـه وإلى كلمة اللـه وإلى إعلان اللـه في قلوبهم. إلا أنّهم من ناحية أخرى لم يعودوا يؤمنوا تماماً بالوسائل التي يمكن من خلالها نشر كلمة اللـه، ولهذا صار الكثيرون منهم لا يعرفون الكيفية التي يجسدون فيها ملكوت اللـه بحياتهم. فتجوع قلوبهم وتعطش وهم يدركون وجوب ظهور شيء من أبدية اللـه ومن الواقع الذي يريده فينا، ولكنهم لا يعرفون تماماً ما يفعلون بشأنه.
فلهذا السبب يجب أن نبدأ بالحديث عن ملكوت اللـه بطريقة جديدة. وعلى الرغم من الظروف الحالية، حيث أن جزءاً كبيراً من الكنيسة ومن الشركة المسيحية ميت تقريباً، إلا أنه ما يزال بمقدورنا الحديث عن ملكوت اللـه للناس من رجال ونساء عصرنا. فقد كان ملكوت اللـه يمثل سيادة الحق والنظام والقوة والسلطان الإلهي لكل ما يخضع لله في الخليقة والذي ما يزال بل سيستمر في هذا النهج. وهو ما يؤثر في قسم منّا نحن البشر من الذين يتوخون الحقيقة، ولابد لهذا أن يتجسد ويصير له كياناً منظوراً في حياتنا بصورة كاملة. فما لم تنصهر حياتنا لتكون وفقاً لهذه السيادة فسيستمر في داخلنا الشعور بعدم الرضا. وربما نستمتع برفاهية الحياة العصرية، ولكن واقع الأمور الأبدية سينطفئ في حياتنا ما لم يبزغ فجر سيادة وهيمنة حقائق اللـه وعدله لتصير نور حياتنا.
ومع ذلك فإن هذه الحقيقة تسبب الكثير من التنافر بمجرد التطرق إليها. فملايين من الناس “المسيحيين” يشعرون بكل السلام والراحة من مرحلة الطفولة وصاعداً حتى يوروا الثرى. فهم مقتنعون ومكتفون لما يُقال عن اللـه، ولا يثير هذا أي شعور بعدم الراحة فيهم بأي طريقة من الطرق. فالدين يؤخذ كأمر مُسَلّم به على أنه جزءاً من الحياة؛ ويتم قبوله كما هو. وهذا لا يسبب أي خلاف أو صراع ولكنه على الأكثر قد يثير جدالاً هنا أو هناك فيما يتعلق بتفسير هذا التعليم أو ذاك التعليم، إلا أن تلك المجادلات غير ذات جدوى. وسرعان ما ينشأ خلاف جديد حينما نشعر بضرورة إعلان ملكوت اللـه على أنه شيء حيّ، وهو ما أريد أن أفعله اليوم. فأنا لا أريد مجرد تثقيفك، ولكني أريد أن أعلن لك ما وضعه اللـه في قلبي: ألا وهو أن ملكوت اللـه واقع حي، وهو سلطان يُفْعِم النفوس هنا والآن. واليوم، هو قريب ومتاح - قريب أكثر مما نعتقد. وتدخُّل اللـه الحي أقوى اليوم أكثر مما يعتقد الكثيرون. فاللـه يريد أن يُظهر نفسه الآن على أنه إله قادر على كل شيء، فهو الوحيد الذي علينا أن نشغل أنفسنا به، وبكامل البهجة والسرور.
عندما نتحدث عن ملكوت اللـه فأننا نبشر أن يسوع المسيح ليس ميت. وهو ليس مجرد شخص عادي ظهر من ألفين سنة مضت، أو شخصية من الماضي نحتفظ ببعض تعاليمها. لا، فمثلما عاش يسوع قبل ألفين عام مضت، فهو حيّ اليوم. ويريد أن ينتصر في وسط معاشرنا لأجل مجد اللـه. ويريد أن يحيا بيننا حتى تتعمق وتنمو مهابتنا للـه ألآب في السماء. يجب أن نَمْثُلَ أمام اللـه بطبيعتنا الضعيفة والفقيرة روحياً، ونرفع عيوننا نحوه بتنهد قائلين: “يا أبتاه، يا أبتاه، أنا أيضاً أريد أن أكون ابنك!” عندئذ، وبمعونة القوة المعطاءة للحياة، سنؤمن أن: يسوع حيّ وظافر وسيساعدني. ولا يهم من أكون، فإن اسمه سيتقدس فيّ، وستكتنفني سيادته بحيث تتمّ مشيئته فيّ تماماً مثلما تتمّ في السماء.
أصدقائي الأعزاء، أتمنى أن أضع في قلوبكم قوة اللـه الحية. وأتمنى أن أساعدكم على فهم أن تلك القوة هي التي تجعلنا خليقة جديدة تماماً. ويمكنها أن تتغلب على الكثير من بؤسنا، حتى على ذلك البؤس في حياتنا المادية. فقوة اللـه الحية تدركنا وتريد أن تظهر لنا قيم حقيقية وواضحة يمكن أن تجعل منا أشخاصاً سُمَحَاءً على الرغم من كل ما يوقعنا في شرك هذه الحياة.
يسوع حيّ ويعمل فهو ليس كلمة فارغة أو مجرد تعليم
ولكن في عالم طبيعتنا الإنسانية هناك مقاومة كثيرة ضد الحقيقة الإلهية بشكل أكثر مما يظن الكثيرون. وفي المجتمع البشري وفي ظِلّ كل التأثيرات السلبية التي نتعرض لها، هناك عوائق قوية أمام قوة المسيح الحية وهذه العوائق أقوى مما يظن الناس. وعادة ما أجد أنه عندما أتحدث عن اللـه وعن المسيح وعن الروح القدس فأن الجميع يتفق معي، ولا أحد يتضايق، ولكن الصراع يبدأ بمجرد أن أتخذ موقفاً حازماً وأقول: “لقد عشتُ واختبرت من هو يسوع. فقد نظرت إلى القوة الحية، وإلى ملكوت إلهنا، الذي يريد أن يستحوذ علينا حتى في زماننا هذا. وأريد أن أقول لك أن حقيقة وطاقة الحياة التي يهبها إلهنا منهمكة في العمل حتى في يومنا هذا. وأعلن لك أنه حتى الآن فإن حقيقة ملكوت اللـه توافينا على هذه الأرض بشكل منظور. ولا نحتاج أن ننتظر حتى نموت وندفن. فهنا والآن يمكننا أن نسمع بآذاننا، ونرى بعيوننا من هو يسوع، ومن هو الروح المعطي للحياة. فهو اليوم مثلما كان في زمن الرسل. ولا يعتمد الأمر على هذه أو تلك الكنيسة، أو على هذا أو ذاك التعليم، ولكن على يسوع المسيح نفسه (يوحنا 14: 6). فلا بد وأن نتعرف عليه!”
أما بالنسبة لي، فإن هذه هي الطريق الوحيدة. ولكني إن أعربتُ عن هذا للآخرين فقد يكون رد فعل الناس: “مَن هذا الشخص المتغطرس؟ كيف يمكن لأحد أن يقول مثل تلك الأشياء اليوم؟ ألا يُعتبر الكتاب المقدس والطوائف القائمة كافية بالنسبة لنا؟ هذه خرافة ومبالغة”. لهذا سيتولد صراع، إلا أنه سيوقد النور في قلوب كثيرة، ألا وهو نور الرجاء، ونور القوة، ونور من الأعالي فيما وراء هذه الأرض. إذ لا يمكن لأي شيء أن نستمد منه القوة أكثر من التيقُّن أن يسوع حيّ ويعمل وأنه ليس كلمة فارغة أو مجرد تعليم. ولا شيء يمدّنا بالقوة والنشاط أكثر من وعينا أن يسوع موجود في وسطنا (متى 18: 20). ويجب أن نؤمن بهذا حتى تصبح حياته حقيقة فينا وحتى تنقينا روحه.
لو كان ملكوت اللـه هام بالنسبة لك، عندئذ لن تكون أنت بنفسك شيء هام.
إذن ما معنى أن نؤمن؟ هناك الكثير من الجدل حول الإيمان؛ ولكن ويل لنا ولجدالنا حول الإيمان! أليس الإيمان شيئاً بسيطاً؟... شيئاً يمكن لأي طفل أن يفهمه؟ أصدقائي، إذا كان يسوع حيّ حقاً، وإذا كان هو ملك الملوك، فعندئذ يجب ألا تتوكلوا على ذاتكم من الآن فصاعداً. ويجب أن تنكروا أنفسكم في كل الأشياء التي هي ملكٌ للـه. ويجب أن تكونوا كالشخص الذي يحتضر، وشخص يقول فيما يخص أمور اللـه: “لا يمكنني أن أفعل شيئاً، فلا أحد سوى يسوع له الحق في أن يُظهر لنا الأمور الإلهية!” وبهذه الطريقة فقط نُكرّم هذا الملك.
لو كان ملكوت اللـه هام بالنسبة لك، عندئذ لن تكون أنت بنفسك شيء هام، بل على العكس، يجب أن ترمي نفسك عند أقدام يسوع، وتفكر، أنا كائن بشري ضعيف ولكن يسوع حيّ ويسوع غالب، وسأعطي نفسي له، وسأرجع كل شيء له حتى لا يسودني شيء بل هو وحده.
هذا هو الإيمان. إن آمنا بيسوع المسيح عندئذ يجب أن نقف صامدين. فلن ينفعك أن تسمع شخصاً ما يتحدث عن الإيمان أو تتحدث عن مَنْ ضحى بنفسه من أجل قضية جيدة، أو أن تؤمن بالتعاليم، فسيكون كل هذا بلا جدوى.
لذلك أود أن أصرخ وأنادي للعالم كله: “مُتْ، ليحيا يسوع في حياتك!” (غلاطية 2: 20)، بمعنى آخر، لا توجه اهتماماً لشيء زائف، أو شيء يتعارض مع الحق. فيسوع المسيح هو الرب. فارفعوا قبضتكم عالياً غاضبين ضد كل ما يأتي من الجسد، وضد كل خداع يأتي من تفكيرك البشري. فكل ما هو زائف يجب أن يسمى زائف. أفعل هذا لأجل اللـه مخلصك! وكل ما هو خطأ ليموت ويموت مرة ثانية وثالثة لكي لا يكون ذي جدوى لأي شيء. عندئذ سنتعجب من كل ما يمكننا أن نفعله من خلال سيادته علينا.

كريستوف بلومهارت Christoph Blumhardt
هذا المقال مقتطف من كتاب "في إنتظارهِ فعلٌ"