قداسة البابا المعظم الأنبا تواضروس الثانى

قداسة البابا المعظم الأنبا تواضروس الثانى

وصية قداسة البابا شنودة الثالث لرعيته

وصية قداسة البابا شنودة الثالث لرعيته
وصية قداسة البابا شنودة الثالث مثلث الرحمات

الخميس، 27 يناير 2011

أطلبوا ملكوت الله

(لَكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلاً مَلَكُوتَ اللَّهِ وَبِرَّهُ
وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ.)
(متى 6: 33 )




إنَّ تاريخ حياة يسوع هو تاريخ ملكوت اللـه في الماضي والحاضر. فقد ذُهِلَ البعض بهذه الحقيقة واستحوذت على حياتهم بالكامل. إلا أن كثيرين غيرهم غابت عنهم رؤية ملكوت اللـه هذه الأيام. إذ انبهرت عيون الناس بالكثير من الأشياء، وكانت للحياة الخارجية مطالبها. فصار الإنسان يرفع نفسه عالياً وبكل قوة في تقدمه وبحثه بالأسلوب البشري الآن أكثر من أي وقت مضى. ويبدو كما لو أن العالم بأسره أراد أن يقدم لنا طاقته على طبق ذهبي قائلاً: “ استخدمني، لتصبح عظيماً وقوياً، وغنياً، ومبدعاً، ونشيطاً - وسيطر على كل شيء”. فإن القوى التي ما كاد الزمان يحلم بها سابقاً قد أصبحت متاحة لنا الآن وأبوابها مُشرّعة. ويجد كل شخص نفسه في مكانة تسمح له أن يستغل تلك الاختراعات الجديدة وتلك القوى الجديدة لأغراضه الخاصة. ويبدو أن مجتمعنا بأكمله يعتمد ويتوقف على هذا. وإذا ما غَضَضْنَا الطرف عن تلك الأمور، فسنتباطأ ونفتُر وأخيراً سيقضي نحبنا في ظلِّ حياتنا الأرضية البحتة. فهناك روح تسعى لتحقيق إنجازات فكرية والتي تُنحي جانباً الاهتمام بملكوت اللـه.
لكن غابت عن كثيرين رؤية ملكوت اللٰـه
لقد حدث سوء فهم فظيع فيما يتعلق بحقيقة ملكوت اللـه وماهيته. أما عن المفهوم الشائع للكنيسة فقد قيل الكثير عنه ولم يكن هناك أيّ تقصير بشأنه، كما قد ذُكِر الكثير عن التعاليم الطقسية التي أبقتها الكنيسة، وعن الطوائف المتعددة التي صارت أمراً فاضلاً ومقدساً داخل جسد الديانة المسيحية. إذ هناك تشديدٌ جسيمٌ تمَّ ترسيخه على المظهر والإطار الخارجي والذي نعبّر به من خلاله عن أنفسنا كمسيحيين. لذلك نفهم سبب عدم حصول الكثيرين اليوم على الصفات الحية التي أراد أبينا السماوي أن يعطيها لنا في يسوع المسيح. فلم يروا ولم يتذوقوا الحياة التي تأتي من اللـه، لهذا فهم في مأزق. صحيح أنهم يقرّون بحاجتهم إلى اللـه وإلى كلمة اللـه وإلى إعلان اللـه في قلوبهم. إلا أنّهم من ناحية أخرى لم يعودوا يؤمنوا تماماً بالوسائل التي يمكن من خلالها نشر كلمة اللـه، ولهذا صار الكثيرون منهم لا يعرفون الكيفية التي يجسدون فيها ملكوت اللـه بحياتهم. فتجوع قلوبهم وتعطش وهم يدركون وجوب ظهور شيء من أبدية اللـه ومن الواقع الذي يريده فينا، ولكنهم لا يعرفون تماماً ما يفعلون بشأنه.
فلهذا السبب يجب أن نبدأ بالحديث عن ملكوت اللـه بطريقة جديدة. وعلى الرغم من الظروف الحالية، حيث أن جزءاً كبيراً من الكنيسة ومن الشركة المسيحية ميت تقريباً، إلا أنه ما يزال بمقدورنا الحديث عن ملكوت اللـه للناس من رجال ونساء عصرنا. فقد كان ملكوت اللـه يمثل سيادة الحق والنظام والقوة والسلطان الإلهي لكل ما يخضع لله في الخليقة والذي ما يزال بل سيستمر في هذا النهج. وهو ما يؤثر في قسم منّا نحن البشر من الذين يتوخون الحقيقة، ولابد لهذا أن يتجسد ويصير له كياناً منظوراً في حياتنا بصورة كاملة. فما لم تنصهر حياتنا لتكون وفقاً لهذه السيادة فسيستمر في داخلنا الشعور بعدم الرضا. وربما نستمتع برفاهية الحياة العصرية، ولكن واقع الأمور الأبدية سينطفئ في حياتنا ما لم يبزغ فجر سيادة وهيمنة حقائق اللـه وعدله لتصير نور حياتنا.
ومع ذلك فإن هذه الحقيقة تسبب الكثير من التنافر بمجرد التطرق إليها. فملايين من الناس “المسيحيين” يشعرون بكل السلام والراحة من مرحلة الطفولة وصاعداً حتى يوروا الثرى. فهم مقتنعون ومكتفون لما يُقال عن اللـه، ولا يثير هذا أي شعور بعدم الراحة فيهم بأي طريقة من الطرق. فالدين يؤخذ كأمر مُسَلّم به على أنه جزءاً من الحياة؛ ويتم قبوله كما هو. وهذا لا يسبب أي خلاف أو صراع ولكنه على الأكثر قد يثير جدالاً هنا أو هناك فيما يتعلق بتفسير هذا التعليم أو ذاك التعليم، إلا أن تلك المجادلات غير ذات جدوى. وسرعان ما ينشأ خلاف جديد حينما نشعر بضرورة إعلان ملكوت اللـه على أنه شيء حيّ، وهو ما أريد أن أفعله اليوم. فأنا لا أريد مجرد تثقيفك، ولكني أريد أن أعلن لك ما وضعه اللـه في قلبي: ألا وهو أن ملكوت اللـه واقع حي، وهو سلطان يُفْعِم النفوس هنا والآن. واليوم، هو قريب ومتاح - قريب أكثر مما نعتقد. وتدخُّل اللـه الحي أقوى اليوم أكثر مما يعتقد الكثيرون. فاللـه يريد أن يُظهر نفسه الآن على أنه إله قادر على كل شيء، فهو الوحيد الذي علينا أن نشغل أنفسنا به، وبكامل البهجة والسرور.
عندما نتحدث عن ملكوت اللـه فأننا نبشر أن يسوع المسيح ليس ميت. وهو ليس مجرد شخص عادي ظهر من ألفين سنة مضت، أو شخصية من الماضي نحتفظ ببعض تعاليمها. لا، فمثلما عاش يسوع قبل ألفين عام مضت، فهو حيّ اليوم. ويريد أن ينتصر في وسط معاشرنا لأجل مجد اللـه. ويريد أن يحيا بيننا حتى تتعمق وتنمو مهابتنا للـه ألآب في السماء. يجب أن نَمْثُلَ أمام اللـه بطبيعتنا الضعيفة والفقيرة روحياً، ونرفع عيوننا نحوه بتنهد قائلين: “يا أبتاه، يا أبتاه، أنا أيضاً أريد أن أكون ابنك!” عندئذ، وبمعونة القوة المعطاءة للحياة، سنؤمن أن: يسوع حيّ وظافر وسيساعدني. ولا يهم من أكون، فإن اسمه سيتقدس فيّ، وستكتنفني سيادته بحيث تتمّ مشيئته فيّ تماماً مثلما تتمّ في السماء.
أصدقائي الأعزاء، أتمنى أن أضع في قلوبكم قوة اللـه الحية. وأتمنى أن أساعدكم على فهم أن تلك القوة هي التي تجعلنا خليقة جديدة تماماً. ويمكنها أن تتغلب على الكثير من بؤسنا، حتى على ذلك البؤس في حياتنا المادية. فقوة اللـه الحية تدركنا وتريد أن تظهر لنا قيم حقيقية وواضحة يمكن أن تجعل منا أشخاصاً سُمَحَاءً على الرغم من كل ما يوقعنا في شرك هذه الحياة.
يسوع حيّ ويعمل فهو ليس كلمة فارغة أو مجرد تعليم
ولكن في عالم طبيعتنا الإنسانية هناك مقاومة كثيرة ضد الحقيقة الإلهية بشكل أكثر مما يظن الكثيرون. وفي المجتمع البشري وفي ظِلّ كل التأثيرات السلبية التي نتعرض لها، هناك عوائق قوية أمام قوة المسيح الحية وهذه العوائق أقوى مما يظن الناس. وعادة ما أجد أنه عندما أتحدث عن اللـه وعن المسيح وعن الروح القدس فأن الجميع يتفق معي، ولا أحد يتضايق، ولكن الصراع يبدأ بمجرد أن أتخذ موقفاً حازماً وأقول: “لقد عشتُ واختبرت من هو يسوع. فقد نظرت إلى القوة الحية، وإلى ملكوت إلهنا، الذي يريد أن يستحوذ علينا حتى في زماننا هذا. وأريد أن أقول لك أن حقيقة وطاقة الحياة التي يهبها إلهنا منهمكة في العمل حتى في يومنا هذا. وأعلن لك أنه حتى الآن فإن حقيقة ملكوت اللـه توافينا على هذه الأرض بشكل منظور. ولا نحتاج أن ننتظر حتى نموت وندفن. فهنا والآن يمكننا أن نسمع بآذاننا، ونرى بعيوننا من هو يسوع، ومن هو الروح المعطي للحياة. فهو اليوم مثلما كان في زمن الرسل. ولا يعتمد الأمر على هذه أو تلك الكنيسة، أو على هذا أو ذاك التعليم، ولكن على يسوع المسيح نفسه (يوحنا 14: 6). فلا بد وأن نتعرف عليه!”
أما بالنسبة لي، فإن هذه هي الطريق الوحيدة. ولكني إن أعربتُ عن هذا للآخرين فقد يكون رد فعل الناس: “مَن هذا الشخص المتغطرس؟ كيف يمكن لأحد أن يقول مثل تلك الأشياء اليوم؟ ألا يُعتبر الكتاب المقدس والطوائف القائمة كافية بالنسبة لنا؟ هذه خرافة ومبالغة”. لهذا سيتولد صراع، إلا أنه سيوقد النور في قلوب كثيرة، ألا وهو نور الرجاء، ونور القوة، ونور من الأعالي فيما وراء هذه الأرض. إذ لا يمكن لأي شيء أن نستمد منه القوة أكثر من التيقُّن أن يسوع حيّ ويعمل وأنه ليس كلمة فارغة أو مجرد تعليم. ولا شيء يمدّنا بالقوة والنشاط أكثر من وعينا أن يسوع موجود في وسطنا (متى 18: 20). ويجب أن نؤمن بهذا حتى تصبح حياته حقيقة فينا وحتى تنقينا روحه.
لو كان ملكوت اللـه هام بالنسبة لك، عندئذ لن تكون أنت بنفسك شيء هام.
إذن ما معنى أن نؤمن؟ هناك الكثير من الجدل حول الإيمان؛ ولكن ويل لنا ولجدالنا حول الإيمان! أليس الإيمان شيئاً بسيطاً؟... شيئاً يمكن لأي طفل أن يفهمه؟ أصدقائي، إذا كان يسوع حيّ حقاً، وإذا كان هو ملك الملوك، فعندئذ يجب ألا تتوكلوا على ذاتكم من الآن فصاعداً. ويجب أن تنكروا أنفسكم في كل الأشياء التي هي ملكٌ للـه. ويجب أن تكونوا كالشخص الذي يحتضر، وشخص يقول فيما يخص أمور اللـه: “لا يمكنني أن أفعل شيئاً، فلا أحد سوى يسوع له الحق في أن يُظهر لنا الأمور الإلهية!” وبهذه الطريقة فقط نُكرّم هذا الملك.
لو كان ملكوت اللـه هام بالنسبة لك، عندئذ لن تكون أنت بنفسك شيء هام، بل على العكس، يجب أن ترمي نفسك عند أقدام يسوع، وتفكر، أنا كائن بشري ضعيف ولكن يسوع حيّ ويسوع غالب، وسأعطي نفسي له، وسأرجع كل شيء له حتى لا يسودني شيء بل هو وحده.
هذا هو الإيمان. إن آمنا بيسوع المسيح عندئذ يجب أن نقف صامدين. فلن ينفعك أن تسمع شخصاً ما يتحدث عن الإيمان أو تتحدث عن مَنْ ضحى بنفسه من أجل قضية جيدة، أو أن تؤمن بالتعاليم، فسيكون كل هذا بلا جدوى.
لذلك أود أن أصرخ وأنادي للعالم كله: “مُتْ، ليحيا يسوع في حياتك!” (غلاطية 2: 20)، بمعنى آخر، لا توجه اهتماماً لشيء زائف، أو شيء يتعارض مع الحق. فيسوع المسيح هو الرب. فارفعوا قبضتكم عالياً غاضبين ضد كل ما يأتي من الجسد، وضد كل خداع يأتي من تفكيرك البشري. فكل ما هو زائف يجب أن يسمى زائف. أفعل هذا لأجل اللـه مخلصك! وكل ما هو خطأ ليموت ويموت مرة ثانية وثالثة لكي لا يكون ذي جدوى لأي شيء. عندئذ سنتعجب من كل ما يمكننا أن نفعله من خلال سيادته علينا.

كريستوف بلومهارت Christoph Blumhardt
هذا المقال مقتطف من كتاب "في إنتظارهِ فعلٌ"